You are currently viewing الشعر كمرادف للعدل والحب والحرية

الشعر كمرادف للعدل والحب والحرية

سليمان صالح

من فعاليات مهرجان الشعر العربي الرابع على مسرح كلية الإلهيات في جامعة مرمرة (الجزيرة)

إن القيمة الحقيقية للشعر تتمثل في تعبيره عن أشواق الإنسان للعدل والحرية، والشعوب تنسي أولئك الشعراء الذين مدحوا الطغاة ومجدوهم، وساهموا في تزييف الوعي، وإلهاء الناس، ودفعهم للخضوع والخنوع.

وكثيرا ما هرب الشعراء -خوفا أو طمعا- إلى الثورة على الأساليب الموروثة في النظم مثل الوزن والقافية، وأطلقوا على ما يكتبونه “الشعر الحر”، وهو ادعاء زائف، فالأمة تحتاج إلى شعراء أحرار يثورون على الطغيان والظلم والاستبداد والاستعمار، وليس على الشكل العمودي للقصيدة. إن الثورة على العروض لا تشكل بديلا عن الثورة على الاحتلال والتبعية والدكتاتورية.

بينما خرجت كلمات أبي القاسم الشابي إلى المجال العام، وانبعثت فيها الحياة، ماتت أشعار المدعين المتغربين في الغرف المغلقة، وعلى صفحات مجلات لا يقرؤها سواهم، وفي وزارات ثقافة سلطوية تحيزت لهم أكثر من ستة عقود، فنشرت دواوينهم، ومنحتهم الجوائز، فانفصلت تلك الوزارات عن الأمة، ولم تعبر يوما عن هويتها، وكفاحها لتحقيق الاستقلال الشامل.

الحرية بين الأصالة والادعاء

الحرية تحتاج إلى أصوات أصيلة تدافع عنها، وتلهم الشعوب معاني جديدة في الكفاح من أجلها، وكلما تميز الشاعر بالأصالة تجلى في شعره معني الحرية، وغنى لها، لذلك فإن هناك علاقة قوية بين أصالة الشاعر وقدرته على التعبير عن أشواق أمته للحرية والتحرر والتحرير، والشاعر الأصيل يعرف لغته العربية، يتذوق جمالها، وقوة أساليبها، ويغرف الدر من بحرها.

لكن العصر الحديث شهد الكثير من أنصاف الجهلاء الذين يدعون وصلا بالشعر، ولا يجيدون لغة العرب، فلجؤوا إلى الغموض واستخدام الرموز التي لا تفهمها الجماهير التي تعاملوا معها باحتقار واستعلاء واستكبار. فالجماهير لا تفهم ما يكتبون لأنه إبداع لم يأت به الأوائل، وهم يثورون على تراث الأمة لأنه يفرض القيود على إبداعهم، ويتنكرون لأمتهم التي لا تفهم، ولم تستطع أن تسير خلف الغرب المتحضر المتقدم، فظلت متخلفة لأنها تتمسك بتراث لم يعد يصلح لهذا الزمان.

وعندما يتحدثون عن الحرية، فإنهم يريدون ذلك المفهوم الغربي للحرية بمعنى أن يتخلى الإنسان عن القيم والأخلاق والدين، وينطلق في الدنيا كالبهيمة السائبة والوحوش الضارية وهم تحترق قلوبهم من أجل كلب أو قطة، بينما لا تثير إنسانيتهم مشاهد دماء الشعوب التي تتدفق على أيدي سادتهم في الغرب المتحضر. فإن ذكرت لهم جرائم فرنسا وما ارتكبته من مذابح، انبروا يهاجمون الإسلام بتلك المفردات التي شكل بها الغرب الصورة النمطية للإسلام والتي أصبحوا أسرى لها، وقيدت حريتهم في التفكير والتعبير ويقومون بتوجيه السباب للإسلام ولرسوله، ويدينون العنف والإرهاب لكن لم يجرؤ أحدهم يوما أن يصرخ في وجه الاستعمار والطغاة والظالمين والفاسدين.

حرية الإبداع المتغرب

عندما وصل الإسلاميون للحكم عبروا عن خوفهم وانزعاجهم وقلقهم على حرية الإبداع، فأين ذلك الإبداع الذي قدموه لأمتهم فساهم في زيادة قدرتها على الكفاح من أجل الحرية؟

لقد تذكرت جماهير تونس -في ثورتها ضد الطغيان- شاعرها أبو القاسم الشابي، فغنت أشعاره في ميادين الكفاح، بينما لم تتذكر الجماهير يوما كلمة قالها أولئك المتغربون الذين يتعاملون مع الحرية باعتبارها العداء للإسلام والمبادئ والقيم والأخلاق ولغة العرب، والهوية الإسلامية.

وبينما خرجت كلمات أبي القاسم الشابي إلى المجال العام، وانبعثت فيها الحياة، ماتت أشعار المدعين المتغربين في الغرف المغلقة، وعلى صفحات مجلات لا يقرؤها سواهم، وفي وزارات ثقافة سلطوية تحيزت لهم أكثر من 6 عقود، فنشرت دواوينهم، ومنحتهم الجوائز، فانفصلت تلك الوزارات عن الأمة، ولم تعبر يوما عن هويتها، وكفاحها لتحقيق الاستقلال الشامل.

لذلك اندفع أنصاف المثقفين لمحاصرة وزارة الثقافة في مصر باعتبارها ملكا لهم لا يجوز أن يدخل من بابها إلا من ترضى عنه أجهزة المخابرات والأمن، ويقوم بإلهاء الشعوب لمصلحة الغرب الذي يريد تقييد حركة الأمة الإسلامية، ومنعها من مواصلة كفاحها لانتزاع الحرية، لأنها إن تحررت من سيطرتهم تقدمت وانتصرت.

وزارة ثقافة خاصة

دراسة واقع وزارات الثقافة في عالمنا العربي، خاصة وزارة ثقافة مصر، يكشف تجربة مرة وقاسية عاشتها الشعوب التي تم استخدام هذه الوزارات لتزييف وعيها وإلهائها.

الكثير من الدواوين التي نشرتها تلك الوزارات، ومنحت الجوائز لأصحابها لم تكن لها قيمة حقيقية بمقاييس النقد الأدبي، ولم تتضمن بيتا يمكن أن تردده الجماهير يوما وهي تنطلق في الميادين تعبر عن شوقها للحرية.

وهذا يعني أن وزارات الثقافة المملوكة للعلمانيين المتغربين أهدرت أموال الشعوب على الزيف، وعلى إغراق شعراء بلا موهبة في الترف ليقوموا بإلهاء الجماهير عن قضاياها الحقيقية، ودفعهم للخضوع للحاكم. فهذه الجماهير في نظرهم لا ترى النور الذي يشع من عاصمة فرنسا، ولذلك فإن أمامها عشرات السنين حتى تسير وراء المتنورين فتستحق الديمقراطية بعد أن تنسى إسلامها، وتخضع للمستعمر الذي عين الدكتاتور ليقمعها ويقهرها. فإن تمسكت الأمة بالإسلام، فهذا يعني أن لديها ميولا إرهابية، لذلك فهي تستحق الإعدام الذي لا يعد إرهابا طالما ارتكبه المستعمرون والمستبدون.

تلك هي حرية الإبداع التي يريدها الجهلاء الذين قدمتهم وزارات الثقافة في الدول الدكتاتورية كرموز للثقافة والإبداع والثورة على التراث والأخلاق والإسلام.

ولكن من يثور على الاستعمار والطغيان والتزييف والإلهاء فهو إرهابي يستحق الموت، ولا يمكن أن يدخل من أبواب وزارات الثقافة التي تملك المال والجوائز.

رفض الحوار

عندما كنت وكيلا للجنة الثقافة والإعلام بمجلس الشعب عام 2012 دعونا الجميع للحوار والمناقشة بقلوب مفتوحة، وكان هدفنا أن تكون وزارة الثقافة معبرة عن مصر بكل اتجاهاتها السياسية والفكرية، ولا تكون محتكرة لمجموعة أو شلة شكلها وزراء الثقافة من ثروت عكاشة حتى فاروق حسني.

فوجئت في جلسة الحوار بأنهم قد جمعوا أنفسهم لإفشال الحوار، ومصادرة حق الآخرين في الكلام، ومنع التعبير عن رؤية أخرى تختلف عن تلك التي يريدون فرضها بالقوة، وتزعمهم شاعر كان يحتل وظيفة مهمة في وزارة الثقافة، وكان من الواضح أنه يستمد قوته من وظيفته وليس من شعره.

هاج الرجل وماج مدافعا عن حرية الإبداع التي تواجه الخطر الأكبر من الإسلاميين المتوحشين الذين يريدون أن يقيدوا حرية المبدعين، وعلا صراخ أولئك الذين جاء بهم ليناصروه، وليمنعوا كل من يحاول التعبير عن رؤية أخرى تختلف مع تعريفهم للإبداع باعتباره العداء للإسلام وقيمه ومبادئه وأخلاقه، وليقهروا بأصواتهم العالية من يطالب بكسر احتكارهم لوزارة الثقافة وسيطرتهم عليها.

ولقد استغلوا ما يتميز به رئيس اللجنة -محمد عبد المنعم الصاوي- الذي كان يدير الجلسة من أدب وذوق ورغبة في تحقيق التوافق ليقهروا الإسلاميين، ولينشروا زيفهم حول الخطر الإسلامي الذي يهدد حرية الإبداع، لكن أين ذلك الإبداع وما قيمته، وما تأثيره على حركة الشعوب وكفاحها؟

الإحباط والقنوط

من أهم المعاني التي انتشرت في شعرهم، وما يتميز به إبداعهم هو التعبير عن اليأس والقنوط والعجز والضعف الإنساني، وهذا يشكل مبررا للسقوط والخنوع والخضوع، فلا جدوى من المقاومة، ولا سبيل إلى النهوض، فنحن لسنا كشعوب العالم، ولا نشبه ثوار فرنسا الذين طالبوا بشنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس.

السمة الواضحة لهؤلاء الشعراء هي أنهم متغربون، والمتغربون يرفضون الكفاح ضد الاستبداد المرتبط بالاستعمار، ويعتبرون ذلك عنفا وإرهابا، فيجب أن نشكو ضعفنا بشكل مستمر.

لذلك ينتفض المتغربون من أجل الدفاع عن “شارلي إبدو” باعتبار أن الرسومات التي نشرتها والتي تسيء لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إبداعا، ولا تتمعر وجوههم غضبا لدماء المسلمين التي أغرقت الأرض منذ الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 حتى الآن، ذلك أن الفرنسيين شعب متقدم، أما نحن فمتخلفون نستحق القتل.

وطبقا لأشعارهم فإن علينا أن نيأس، ونسعد بعجزنا، ونفتخر بضعفنا فهو أساس الإنسانية، وأن نعمل للحصول على لقمة عيش مغموسة في تراب الهون والذل والمسكنة.

واليأس إحدى الراحتين، ومن ييأس ويغرق في أحزانه، ويخضع للطغيان، فهو ضعيف يستحق التمجيد، وماذا يفعل الإنسان الضعيف إن سقط، وعلى المجتمع أن يتعاطف معه، فهو لا يستحق عقابا، ولكن ذلك المجتمع المتخلف المتمسك بتراثه العتيق هو الذي يستحق العقاب.

هل هذه هي الحرية؟

تلك هي حرية الإبداع التي يريدها المتغربون الذين استولوا على وزارة الثقافة، واحتكروها واستخدموها في نشر غثائهم وأشعارهم الرديئة التي لا تلتزم بوزن أو قافية، ولا يفهم أحد منها شيئا. وتلك الأشعار هي تجليات حرية الإبداع بزعمهم، فهي تثور على المجتمع المتخلف الذي لا يريد أن يسير خلف الفرنسيين الذين تحرروا من الدين فتقدموا.

أعرف الكثير من الشعراء في مصر لم يحصل أحدهم على فرصة لنشر إنتاجه لأنهم ببساطة لا تنطبق عليهم الشروط التي فرضها الذين سيطروا على وزارة الثقافة، وترفض دور النشر الخاصة نشر إنتاجهم، لأنهم غير معروفين، ولا يتمتعون بالشهرة التي تؤهلهم للنشر.

وهناك من أدركوا متطلبات الواقع وشروطه فتخلوا عن مبادئهم، فأنتجوا شعرا ترضى عنه وزارة الثقافة، فذاعت شهرتهم، منهم شاعر كان موهوبا وأصيلا كتبت عنه في أواخر الثمانينيات في الصحف وقدمته للجمهور، لكنه اضطر للرضوخ والخضوع للشروط، فنسي الأصالة، وسار في ركب المتغربين ليحصل على الشهرة والجوائز.

بذلك نكتشف أن الشعراء الذين يخافون من الإسلام على حرية الإبداع، خضعوا للطغيان، وساهموا في إلهاء الجماهير حتى لا تثور، ومجدوا لها الضعف والخضوع واليأس والحزن، لأنه لا ثورة بلا أمل في انتزاع الحرية والتحرر من الاستعمار. والأمة تحتاج إلى جيل جديد من الشعراء يغنون للحرية بمعني حرية الشعوب التي تكافح وتقاوم وتحلم وتعتز بهويتها الإسلامية.

كما تحتاج الأمة لوزارات ثقافة تقدم للجماهير شعراء الحرية والمقاومة والكفاح الذين يبدعون ليلهموا شعوبهم، ويمجدوا أبطالها وشهداءها وكفاحها وانتصاراتها. والأمة تشتد حاجتها في القرن الـ21 لشعراء يثورون على التبعية للغرب، ويبدعون في تلك الثورة، ولا يخضعون للطغيان، فهذا قرن التحديات والصراع والحروب والانتصارات.

سليمان صالح

أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعضو مجلس الشعب في برلمان الثورة ووكيل لجنة الثقافة والإعلام بالمجلس 2012

اترك تعليقاً