كتب د.هشام الحمامي
التاريخ لا يهتم بالوقائع المادية كثيرا، أو هكذا يجب، وأن الموضوع الحقيقي لاهتمامه هو “الروح الإنسانية”، وعلى التاريخ الاهتداء إلى ما اعتقدته هذه “الروح”، وشعرت به، وفكرت فيه.
صاحب هذا التنظير العميق هو المؤرخ الفرنسي فيستيل دى كولانج (ت: 1889م)، والذي يعد من أوائل المؤرخين المحدثين الذين طرقوا ظاهرة “الإيمان” واهتموا بها، وقرأوا التاريخ ليس فقط بوصفه وقائع وأحداثا مضت وأنقضت، ولكن باعتباره النماذج الباقية الدائمة المستمرة من هذه الأحداث. وله مقولة جديرة بالكثير من النظر يقول فيها: إن العقيدة تُفهم بوضوح أكثر في “أفعال” الإنسان، مما تٌفهم من “أفكاره”.
هذا الرجل لم ير صاحب المشهد الكريم بـ”عصاه” التي يضرب بها “الطائرة المسيّرة”، لكنه رأى مثله من عظماء التاريخ كنماذج باقية ومستمرة من خلال هذا التاريخ ووقائعه، تموت أجسادهم وتنتهي أعمارهم، وتبقى “الروح” من بعدهم مستمرة وممتدة ومتسعة في تأثير أقوى وأثر أعظم مما كان منهم في الحياة، وهو مما عناه جبران خليل جبران (ت: 1931) بقوله لمن يعاديه أن الروح فينا جوهر لا يضام.
* * *
سيرة الرجل تقول إنه ليس هناك من هو أكثر دراسة وإلماما وفهما بتفكير سلطة الاحتلال منه، وفي أغلب الظن كان يعرف أن المسيّرة بها كاميرا تصور مشهده، وهو مقطوع الذراع الأيمن ويضرب بعصاه بالذراع الأيسر، وكأنه بأنوار سريرته كان يعلم أن هذه الصورة وهذا المشهد سيصل إلى أقاصي الدنيا، فصدرت منه تلك “الضربة” التي تحمل في حركتها ألف معنى ومعنى وألف رسالة ورسالة، وبما يفوق آلاف المرات مجرد التلويح بها. وسواء أكان بذلك يؤكد لأصحابه من بعده أن ما بدأناه سيستمر، أو كان يستدعي “الروح” المؤمنة التي تعي قوله سبحانه “ما استطعتم”، ويوقظها في نفوس ظنت ما لا يجب من الظن برب العالمين.
* * *
أيا ما كان الأمر فنحن أمام مشهد لا أدرى كيف مر من أمام أساتذة “صناع الصورة” في أوروبا وأمريكا، وأنا ممن يعتقدون بجزم ويقين أن هذه الحرب علينا (المفتوحة المتعددة) هي حرب أوروبا وأمريكا على الشرق المسلم، وإسرائيل ليست سوى “عصاهم” التي يضربوننا بها، وكل ما يقال عن الخلافات والتباينات بين إسرائيل وأمريكا وقادة أوروبا مجرد ضباب إعلامي فيه من السخف والسماجة ما يسد عين الشمس كما يقولون.
لكن العتب كل العتب على مثقفينا الذين يغنون وراءهم على تلك الألحان البائسة، والمسألة لا تحتاج منهم أكثر من قراءة بسيطة في لحظة “الميلاد الأولى”، لكن دعونا نستبشر من فيوض “طوفان الأقصى” ما يصحح ذلك وغيره، كما تتم الآن تصحيح “الرواية الكبرى” التي عاشوا عليها سبعين عاما كذبا وتضليلا.
* * *
كل شجاعة في المرء تُغني ولا مِثل الشجاعة في الحكيم
البيت السابق للمتنبي (ت: 695م) يسبقه ثلاثة أبيات سنجد أنفسنا في “أشد الحاجة” للاقتراب منها هذه الأيام! تقول:
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبنـاء أن الجبن عقـل وتلك خديعة الطبع اللئيم
* * *
بعد مرور سنة و10 أيام من “طوفان الأقصى”، وبعد مرور 7 أعوام على انتخابه قائدا لحماس في غزة، وبعد مرور 13 عاما على خروجه من السجن الذي قضى فيه 23 سنة، وبعد مرور 62 عاما على ميلاده.. سينتقل إلى رحاب الله العلي الأعلى “يحيى السنوار”، الرجل الذي أصبح تاريخ شخص في تاريخ أمة، وتاريخ أمة في تاريخ شخص ساهم في بعث أمة.
* * *
عرفتُ الرجل عن قرب، من خلال روايته “الشوك والقرنفل”، التي حكى فيها حياته، وأيضا من خلال متابعته، لكني أكتشف أني لست وحدي..
* * *
أبيات المتنبي ستنطق في أعمق أعماق معانيها بـ”يحيي السنوار” الذي وجد نفسه في الحياة لا يقنع بأي شيء فيها، ولا يقتنع إلا بعدد قليل ممن فيها، فجعل لنفسه في تلك الحياة غاية تفوق الحياة وكل من فيها.
سيجدون مع مقتنياته مسبحة وكتاب أذكار ومسدس، الرجل كان يعيش بقدم هنا وقدم هناك!
* * *
لقد فعل الرجل في سنة واحدة ما عجزت كل “الأمة” عنه في سبعين عاما، والتاريخ يشهد، والتاريخ يكتب.
الرجل قال وفعل، ومهد الدرب، ووضع علاماته واتجاهاته، وانتقل في مشهد سيتحول إلى “تاريخ حي”، بل لقد تحول بالفعل.
وشاءت إرادة الله أن يكون الرجل زلزالا في “حياته” وزلزالا في “مماته”، كل أجهزة التخابر في الشرق والغرب وأمريكا عجزت عن الوصول إليه، ووصلت إليه فقط حين جاءه النداء فقال: “لبيك ربي”، وسنعرف بعدها أنه كان “يقاتل” تحت الأرض وفوق الأرض سنة بأكملها.
* * *
“ألا لله الدين الخالص”.. صدق الله العظيم ومن أصدق من الله قيلا، فأي “نور” هذا كان في كل قول عمل.. وأي “إحسان” هذا لم يعرف شَكا ولا شِركا، وأي “صدق” هذا.. وأي “إخلاص” هذا.. لتكون أيام العمر كله ما كانت، وتكون ساعة الموت على ما كانت.. ما أقوى التأثير وما أعظم الأثر فعلا.