الرئيس الأميركي جو بايدن (يسار) ونظيره الصيني شي جين بينغ (وكالات)
يعتبر التقرير السنوي الذي تعدّه وزارة الدفاع الأميركية عن الصين منذ عام 2000 وتقدّمه للكونغرس بمنزلة التقييم الرسمي من الحكومة الأميركية للتطورات العسكرية والأمنية المتعلقة بالصين، ويتم إعداده بالتنسيق مع سائر الإدارات والوكالات الأخرى في الحكومة الأميركية، وهذا يعني أن ما يرد فيه من معلومات معلنة أو سرية يؤخذ على مجمل الجد. وفي ضوء هذه التقارير، فإن دولة الصين هي الدولة الوحيدة التي تشكل تهديدًا للولايات المتحدة، وصارت تتفوق عليها في العديد من الجوانب، وهي صاحبة أكبر جيش في العالم، وربما أكبر إنفاق عسكري، وتستعد لحرب إستراتيجية جمعت بين القوة التقليدية والنووية والفضائية والإلكترونية والمعلوماتية والاتصالية والنفسية، وتتطلع إلى تغيير النظام العالمي، لتكون أحد الأقطاب الرئيسة في عالم متعدد الأقطاب، يضع نهاية لتفرّد الولايات المتحدة بقيادة العالم.
تعدّ قدرات الجيش الصيني حتى الآن الأقوى داخل سلسلة الجزر الأولى، على الرغم من أن الصين بدأت نشر إمكانات مهمة قادرة على إجراء عمليات خارج سلسلة الجزر الثانية، وتسعى إلى تعزيز قدراتها إلى أبعد من المحيط الهادي، في جميع أنحاء العالم.
التكامل العسكري الإستراتيجي
تناولنا في المقال السابق عددًا من جوانب القوة لدى الصين، التي رصدها تقرير وزارة الدفاع الأميركية لعام 2021. وقد تناولت تلك الجوانب إستراتيجية الصين الوطنية، وانعكاسها على السياسة الخارجية والاقتصادية وإستراتيجيتها العسكرية وتقاطعها مع المجال المدني والاقتصادي والأمني والإلكتروني. وفيما يأتي بقية الجوانب التي تناولها التقرير، والتي جعلت الولايات المتحدة الأميركية تعيد حساباتها وترتيب أولوياتها، وتسعى إلى إعادة بناء تحالفاتها وشراكاتها على مستوى العالم.
القوة الصاروخية والنووية الصينية
في أكتوبر/تشرين الأول 2019 أشارت الصين إلى عودة المحطة المحمولة جوًّا، بعد أن كشفت علنًا عن أول قاذفة جو قادرة على التزوّد بالوقود. فالصين تضع الإستراتيجية النووية والتقليدية لقوات الصواريخ، وتعمل على تعزيز قدراتها في “الردع الإستراتيجي”.
كذلك تعمل الصين على تطوير صواريخ باليستية جديدة عابرة للقارات ستحسن بشكل كبير قواتها الصاروخية ذات القدرة النووية، وسيتطلب ذلك زيادة إنتاج الرؤوس الحربية النووية. وقد شرعت الصين في بناء ما لا يقل عن 3 حقول صوامع تعمل بالوقود الصلب من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، التي ستحتوي بشكل تراكمي على مئات من صوامع الصواريخ الجديدة العابرة للقارات. وتواصل الصين زيادة مخزونها من الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى، القادرة على شن ضربات دقيقة تقليدية ونووية ضد أهداف أرضية بالإضافة إلى ضربات تقليدية ضد أهداف بحرية.
في عام 2020 بدأت الصين إطلاق أول نظام أسلحة تشغيلي يفوق سرعة الصوت، وعلى مدى العقد المقبل تستثمر الصين في عدد من منصات توصيلها النووية البرية والبحرية والجوية وتقوم بتوسيعها. وتدعم الصين هذا التوسع من خلال زيادة قدرتها على إنتاج وفصل البلوتونيوم عن طريق بناء مفاعلات التوليد السريع ومنشآت إعادة المعالجة. وقد تؤدي الوتيرة المتسارعة للتوسع النووي إلى تمكين الصين من امتلاك ما يصل إلى 700 رأس حربي نووي قابل للتسليم بحلول عام 2027، وربما امتلاك ما لا يقل عن ألف رأس حربي بحلول عام 2030، وهو ما يتجاوز معدل وحجم الإمكانات التي قدرتها وزارة الدفاع الأميركية عام 2020.
قدرات التدخل المضاد والحرب الإستراتيجية
يواصل الجيش الصيني تطوير قدراته الميدانية لتوفير الخيارات أمامه لثني، أو ردع، أو هزيمة تدخل طرف ثالث في حملات واسعة النطاق، كحالة الطوارئ في تايوان. وقد أُنشئت قوة الدعم الإستراتيجي للجيش الصيني لتركيز مهام الحرب الإستراتيجية وقدراتها في المجال الفضائي، والإلكتروني، والاتصالات، والحرب النفسية.
تعدّ قدرات الجيش الصيني حتى الآن الأقوى داخل سلسلة الجزر الأولى، على الرغم من أن الصين بدأت نشر إمكانات مهمة قادرة على إجراء عمليات خارج سلسلة الجزر الثانية، وتسعى إلى تعزيز قدراتها إلى أبعد من المحيط الهادي، في جميع أنحاء العالم. وبالإضافة إلى عمليات الضرب والدفاع الجوي والصاروخي وتحسين القدرات المضادة للسطوح والغواصات، تركّز الصين على عمليات المعلومات والإنترنت والفضاء، والطاقة الموجهة وذلك سيؤدي إلى تحسين قدرتها على إجراء العمليات السيبرانية على مدى السنوات القادمة.
البحوث الكيميائية والبيولوجية
انخرطت الصين في أنشطة بيولوجية ذات تطبيقات مزدوجة الاستخدام، وذلك يثير مخاوف بشأن امتثالها لاتفاقية الأسلحة البيولوجية واتفاقية الأسلحة الكيميائية. واستنادًا إلى المعلومات المتاحة، لا تستطيع الولايات المتحدة التصديق على أن الصين أوفت بالتزاماتها بموجب اتفاقية الأسلحة الكيميائية، بسبب مخاوف تتعلق ببحوثها ذات الاستخدام المزدوج.
الوجود العالمي المتزايد للجيش الصيني وأنشطته
يعتقد قادة الصين أن أنشطتها العالمية ضرورية لخلق بيئة دولية مواتية لتجديد شباب الصين الوطني، إذ كلف الحزب الشيوعي الصيني جيش التحرير الشعبي بتطوير القدرة على إبراز القوة خارج حدود الصين ومحيطها المباشر، لتأمين المصالح الخارجية للصين وتعزيز أهداف سياستها الخارجية. ففي عام 2020 كلف بتعديل لقانون الدفاع الوطني الجيش الصيني بالدفاع عن “مصالح التنمية الخارجية” للصين، مما يعزز مشاركة الجيش في الأنشطة الاقتصادية والدبلوماسية العالمية للصين.
وأدى نمو المصالح الخارجية للصين على مدى العقدين الماضيين إلى دفع الجيش إلى التفكير في كيفية تطوير قدراته للعمل خارج حدود الصين ومحيطها المباشر، وقد أفضى ذلك إلى زيادة رغبة الصين في استخدام الإكراه العسكري -والإغراءات- لتعزيز أمنها العالمي ومصالحها التنموية.
وفي عام 2020 واصل الجيش الصيني تطبيع وجوده في الخارج وبناء علاقات أوثق مع الجيوش الأجنبية، في المقام الأول من خلال المساعدات المتعلقة بـ”كوفيد-19″. وإلى جانب قاعدتها في جيبوتي، تسعى الصين إلى إنشاء بنية تحتية لوجستية وقواعد خارجية أكثر قوة، للسماح للجيش بإبراز القوة العسكرية والحفاظ عليها على مسافات أكبر، لدعم القوة البحرية والجوية والأرضية والإلكترونية والفضائية. ومن المحتمل أن الصين قد نظرت في عدد من البلدان، بما في ذلك كمبوديا وميانمار وتايلاند وسنغافورة وإندونيسيا وباكستان وسريلانكا والإمارات العربية المتحدة وكينيا وسيشل وتنزانيا وأنغولا وطاجيكستان، كمواقع لمنشآت الجيش الصيني.
الشبكة اللوجستية العسكرية العالمية للجيش الصيني ومنشآته يمكن أن تتداخل مع العمليات العسكرية الأميركية، وتدعم العمليات الهجومية ضد الولايات المتحدة، بخاصة مع تطور الأهداف العسكرية العالمية للصين. وقد شدد الجيش الصيني على تطوير مفهوم “الحروب الثلاثة” الذي يتكون من الحرب النفسية، وحرب الرأي العام، والحرب القانونية، منذ عام 2003 على الأقل.
ومن المرجح أن يواصل تطوير قدراته على التأثير الرقمي من خلال دمج التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي لتحسين جودة رسائله. ففي عام 2021 أعلنت الصين أن ميزانيتها العسكرية السنوية ستزيد بنسبة 6.8%، لتستمر أكثر من 20 عامًا من زيادة الإنفاق الدفاعي السنوي، لتكون ثاني أكبر إنفاق عسكري في العالم، علمًا بأن الميزانية العسكرية الصينية المنشورة تتجاهل فئات رئيسة متعددة من النفقات، كما أن الإنفاق العسكري الفعلي أعلى مما هو مذكور في ميزانيتها الرسمية.
وقد واصلت الصين تحرّكها على أعلى مستوى، لإتقان التقنيات المتقدمة، ولتصبح قوة ابتكار عالمية عظمى، تدعم بشكل مباشر جهودها الطموحة في أن يصبح الجيش الصيني جيشًا “عالميًّا” قادرًا على الحرب “الذكية”، وتحافظ الخطة الخمسية الـ14 للصين على التركيز على الاستقلال التكنولوجي والابتكار المحلي في المجالات المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة. وبدءًا من عام 2020، موّل الجيش الصيني العديد من مشاريع الذكاء الاصطناعي التي تركز على التطبيقات، بما في ذلك التعلم الآلي للتوصيات الإستراتيجية والتكتيكية، وألعاب الحرب المدعومة بالذكاء الاصطناعي للتدريب، وتحليل الوسائط الاجتماعية.
تستخدم الصين الواردات والاستثمارات الأجنبية والمشاريع التجارية المشتركة وعمليات الدمج والاستحواذ والتجسس الصناعي والتقني للمساعدة في تحقيق أهداف التحديث العسكري. كذلك تستثمر الصين وتسعى للحصول على التقنيات التي ستكون أساسًا للابتكارات التجارية والعسكرية المستقبلية بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والروبوتات والمركبات المستقلة وعلوم المعلومات والواقع المعزز والافتراضي والتكنولوجيا المالية والتكنولوجيا الحيوية. وتطمس هذه التقنيات الخط الفاصل بين الاستخدام التجاري مقابل الاستخدام العسكري.
حوار المتربصين
يشير تقرير البنتاغون المتعلق بالصين لعام 2021 إلى أن الاتصالات والتبادلات الدفاعية المستمرة لوزارة الدفاع الأميركية مع الصين في عام 2020 أعطت الأولوية لمنع الأزمات وإدارتها، والحدّ من المخاطر، والتعاون المحدود في المجالات التي تتوافق فيها المصالح الوطنية. وفي عام 2020 ركّزت العلاقات الدفاعية بين الولايات المتحدة والصين على بناء إطار عمل مع الجيش الصيني لتعزيز هدف وزارة الدفاع لإنشاء علاقة دفاعية بنّاءة ومستقرة وموجهة مع جيش التحرير الشعبي الصيني، تقود إلى مزيد من الاستقرار، عن طريق إعطاء الأولوية لقنوات حوار السياسات وتقوية الآليات لمنع وإدارة الأزمات وتقليل المخاطر التشغيلية.
ضمن هذا الإطار، تأتي اللقاءات المتكررة على مستوى قيادة البلدين، ووزيري الخارجية والدفاع واللجان العسكرية المتخصصة، إلا أن هذه اللقاءات تعدّ لقاءات مناورة واستكشاف نوايا أكثر من كونها لقاءات تعاون أو تكامل أو بحث مصالح مشتركة، فهي تُعقد بين طرفين متناقضين في النظام السياسي والفكري، وتنافسيين بشدة غير مسبوقة عسكريًّا، ولا يخفي كل منهما عداوته للآخر، واعتباره مهددًا لاستقرار النظام العالمي.
(يتبع)
كاتب صحفي وباحث