قصيدة المهرولون أو (أبدا يا أمريكا) عن فلسطين

قصيدة للشاعر الكبير نزار قباني

أبدا يا أمريكا

إعداد/ السيد نصر

قصيدة المهرولون أو (أبدا يا أمريكا) عن فلسطين

المهرولون


سقطت آخر جدران الحياء.
و فرحنا.. و رقصنا..
و تباركنا بتوقيع سلام الجبناء

لم يعد يرعبنا شيئٌ..
و لا يخجلنا شيئٌ..
فقد يبست فينا عروق الكبرياء… 



سقطت..للمرة الخمسين عذريتنا..

دون أن نهتز.. أو نصرخ..
أو يرعبنا مرأى الدماء..

و دخلنا في زمان الهرولة..

و و قفنا بالطوابير, كأغنامٍ أمام المقصلة.
و ركضنا.. و لهثنا..
و تسابقنا لتقبيل حذاء القتلة..



جوعوا أطفالنا خمسين عاماً.
و رموا في آخر الصوم إلينا..
بصلة…



سقطت غرناطةٌ
للمرة الخمسين من أيدي العرب.
سقط التاريخ من أيدي العرب.

سقطت أعمدة الروح, و أفخاذ القبيلة.

سقطت كل مواويل البطولة.

سقطت كل مواويل البطولة.

سقطت إشبيلة.

سقطت أنطاكيه..
سقطت حطين من غير قتالً..

سقطت عمورية..

سقطت مريم في أيدي الميليشيات

فما من رجلٍ ينقذ الرمز السماوي

و لا ثم رجولة…


سقطت آخر محظياتنا

في يد الروم, فعن ماذا ندافع؟
لم يعد في قصرنا جاريةٌ واحدةٌ
تصنع القهوة و الجنس..
فعن ماذا ندافع؟؟


لم يعد في يدنا
أندلسٌ واحدةٌ نملكها..

سرقوا الابواب

و الحيطان و الزوجات, و الأولاد,
و الزيتون, و الزيت

و أحجار الشوارع.

سرقوا عيسى بن مريم

و هو ما زال رضيعاً..

سرقوا ذاكرة الليمون..
و المشمش.. و النعناع منا..
و قناديل الجوامع…


تركوا علبة سردينٍ بأيدينا

تسمى (غزةً)..
عظمةً يابسةً تدعى (أريحا)..
فندقاً يدعى فلسطين..
بلا سقفٍ لا أعمدةٍ..
تركونا جسداً دون عظامٍ
و يداً دون أصابع…


لم يعد ثمة أطلال لكي نبكي عليها.
كيف تبكي أمةٌ
أخذوا منها المدامع؟؟


بعد هذا الغزل السري في أوسلو
خرجنا عاقرين..
وهبونا وطناً أصغر من حبة قمحٍ..
وطناً نبلعه من غير ماءٍ
كحبوب الأسبرين!!..

بعد خمسين سنة..

نجلس الآن, على الأرض الخراب..
ما لنا مأوى 
كآلاف الكلاب!!.

بعد خمسين سنة
ما وجدنا وطناً نسكنه إلا السراب..

ليس صلحاً,
ذلك الصلح الذي أدخل كالخنجر فينا..
إنه فعل إغتصاب!!…


ما تفيد الهرولة؟
ما تفيد الهرولة؟
عندما يبقى ضمير الشعب حياً
كفتيل القنبلة..
لن تساوي كل توقيعات أوسلو..
خردلة!!..

كم حلمنا بسلامٍ أخضرٍ..
و هلالٍ أبيضٍ..
و ببحرٍ أزرقٍ.. و قلوع مرسلة..
و وجدنا فجأة أنفسنا.. في مزبلة!!..

من ترى يسألهم عن سلام الجبناء؟

لا سلام الأقوياء القادرين.
من ترى يسألهم
عن سلام البيع بالتقسيط..
و التأجير بالتقسيط..
و الصفقات..

و التجار و المستثمرين؟.
من ترى يسألهم
عن سلام الميتين؟
أسكتوا الشارع
و اغتالوا جميع الأسئلة..
و جميع السائلين…

و تزوجنا بلا حبٍ..
من الأنثى التي ذات يومٍ أكلت أولادنا..

مضغت أكبادنا..
و أخذناها إلى شهر العسل..
و سكرنا.. و رقصنا..
و استعدنا كل ما نحفظ من شعر الغزل..
ثم أنجبنا, لسوء الحظ, أولاد معاقين

لهم شكل الضفادع..
و تشردنا على أرصفة الحزن,
فلا ثمة بلدٍ نحضنه.. 
أو من ولد!!

لم يكن في العرس رقصٌ عربي.ٌ
أو طعامٌ عربي.ٌ
أو غناءٌ عربي.ٌ

أو حياء عربي.ٌ ٌ
فلقد غاب عن الزفة أولاد البلد..

كان نصف المهر بالدولار..
كان الخاتم الماسي بالدولار..
كانت أجرة المأذون بالدولار..
و الكعكة كانت هبةً من أمريكا..
و غطاء العرس, و الأزهار, و الشمع,
و موسيقى المارينز..
كلها قد صنعت في أمريكا!!.


و انتهى العرس..
و لم تحضر فلسطين الفرح.

بل رأت صورتها مبثوثةً عبر كل الأقنية..
و رأت دمعتها تعبر أمواج المحيط..
نحو شيكاغو.. و جيرسي..و ميامي..
و هي مثل الطائر المذبوح تصرخ:

ليس هذا الثوب ثوبي..

ليس هذا العار عاري..
أبداً..يا أمريكا..
أبداً..يا أمريكا..

أبداً..يا أمريكا..

اترك تعليقاً