باختياره الدخول مؤخرا في صدام مباشر مع “القضاء”، يكون الرئيس قيس بن سعيد قد اصطدم اصطداما علانيا بـ”دولة الحق والقانون”، بل يكون قد اصطدم بمنتسيكيو (1689-1755م) شخصيا، والذي اشتهر في دنيا الفكر والسياسة بمقولة الفصل بين السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية).. وفكرة الفصل بين السلطات هذه تعتبر بحق “جهاز المناعة العميق” في بنيان الدولة الحديثة، لمنع الاستبداد والطغيان الذي يكاد يكون شيئا طبيعيا في مكنون كل من يملك سلطة فعلية تملك القهر والإجبار والضغط والإكراه، وهو ما ينطبق على كل من يحوز في قبضة يده “سلطة تنفيذية”.
دولة “الحق والقانون” ستختفي وتغيب فورا حين يغيب الفصل التام (أفقيا) بين السلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية.. القضائية هي الساهر والحكم على القانون والأهم قادرة على تطبيقه، والتشريعية هي مجال تحديد وتفصيل وحفظ الحق، والتنفيذية وبحكم الوسائل الرهيبة التي تمتلكها تميل بـ”الطبيعة والغريزة” إلى الهيمنة على السلطتين الأخريين والتحكم فيهما واستلحاقهما بها. وهو الخراب بعينه والفساد بذاته والهلاك الكلي الذي لا يبقي على شيء.
الرئيس يريد من القضاء أن يكون “تابعه”!! وألمح إلى ذلك كثيرا بتعبيراته الإنشائية الفخمة ذات التربيع الدائري والتدوير المربع فقال: إنه لا يعرف “دولة القضاء” وإنما يعرف “قضاء الدولة”، وزاد قائلا إن القضاء مجرد وظيفة في الدولة، وليس سلطة. الدولة عنده هي دولة “السلطة الواحدة”
ليس إلى هذا فقط ذهب أهل العقل والحكمة والسياسة، بل ذهبوا أيضا إلى توزيع السلطة نفسها (رأسيا) في تلك السلطات الثلاث، دون تمركزها في أعلى السلم وانعدامها وغيابها في أسفله، بل وتمر عبر ذلك على محطات رقابية متعددة تتمتع بالشفافية والحصانة. بغير ذلك التكوين لا تكون هناك دولة “حق وقانون”، بل تكون هناك فقط دولة “ملاحقة وبوليس“.. ونقطة ومن أول السطر. ليس هذا فقط، بل وأغلق كتاب الحياة الحقه الكريمة العادلة الآمنة.. وقل سلام…
وصدق العقاد رحمه الله (1889- 1964م) في مقولته البارعة القاطعة:
هما سبيلان من يبغ السلامة لا يأسف على الحق أو يحلم برؤياه
ومن بغى الحق في الدنيا فلا أسف على السلامة إن خانته دنياه
* * *
بقرار الأربعاء الماضي (19 كانون الثاني/ يناير) المتعلق بالمنح والامتيازات الخاصة بالمجلس الأعلى للقضاء، يكون الرئيس التونسى قد أفصح وأبان تماما عما يريده من القضاء، دعك مما هو معلن من الحديث عن الفساد والفاسدين وما إلى ذلك، الرئيس يريد من القضاء أن يكون “تابعه”!! وألمح إلى ذلك كثيرا بتعبيراته الإنشائية الفخمة ذات التربيع الدائري والتدوير المربع فقال: إنه لا يعرف “دولة القضاء” وإنما يعرف “قضاء الدولة”، وزاد قائلا إن القضاء مجرد وظيفة في الدولة، وليس سلطة. الدولة عنده هي دولة “السلطة الواحدة”.. السلطة التنفيذية الرجل أغلق البرلمان ويعتبر أن القضاء وظيفة!
لحديث اليوم ليس حديث امتيازات ومنح – ألا ما أبخس ذلك – الحديث الآن عن مستقبل أمة ووطن؛ في وقت أصبح كل شيء في مهب ريح الطغيان والفقر والمجهول المريب
لقد أخطأ الرجل في حق نفسه (للمرة الألف..!) حين ذهب إلى ما يريده من القضاء بسلوكه هذا المسلك.. ذلك أن مجرد توتر العلاقة بين السلطة القضائية والدولة يمنح الأولى شرف وقوة.. وينفي عنها الخضوع والتبعية لتلك الدولة.. بل ويشير إلى نزاهتها وسلامة مواقفها، خاصة في أوقات “التأزم العام” كالذي تعيشه تونس الآن.
فالحديث اليوم ليس حديث امتيازات ومنح – ألا ما أبخس ذلك – الحديث الآن عن مستقبل أمة ووطن؛ في وقت أصبح كل شيء في مهب ريح الطغيان والفقر والمجهول المريب.
كما أن التلويح بالذهب شيء سخيف وممل للغاية.. إن أردتني لحق، فاطلبني بحق.. ولا تطلبنى ببضعة دولارات وكم لتر بنزين! وإلا فأنت لا تقف على ناصية الحق ولا تطلب الحق.
الملفات الهامة التي تحدث عنها الرئيس ومقربوه تتعلق بأمور خطيرة.. نهب المال العام والاغتيالات السياسية، ومتهم فيها رجال أعمال وسياسيين ووزراء ورؤساء حكومات.. والحديث عن قضايا بهذا الحجم وأهمية سرعة البت فيها لا يكون أبدا في هذا السياق ولا بهذا الإخراج الرديء الذي يظهر القضاة وكأنهم “لصوص للمال العام” ومتآمرون، كما قال أحد القضاة بحق.
لا أتصور أن من يقدم على هكذا خطوات يريد بوطنه وشعبه خيرا، أبسط ما يمكن أن يقال عنه أنه لا يدرك عواقب أفعاله، ولا يعرف إلى أين تأخذه أقدامه وخطاه، إنه المجهول بعينه الذي يسير إليه الرجل ببلاده
ألم ينتبه الرئيس الكريم بما يكفي إلى أن حديثه عن القضاء بهذه الطريقة يؤدي إلى إضعاف روح ومعنويات “المواطن التونسي” في هذه الفترة العصيبة التي يلتبس فيها كل شيء بكل شيء، وهو الوقت الذي يكون القضاء فيه ملاذ الشعب الكبير لحفظ حقوقه وأمنه وكرامته، وحتى إذا ما كانت هناك أخطاء مرصودة، فلها تعامل ومعالجة بغير طريق التشهير بالامتيازات والدولارات.
لا أتصور أن من يقدم على هكذا خطوات يريد بوطنه وشعبه خيرا، أبسط ما يمكن أن يقال عنه أنه لا يدرك عواقب أفعاله، ولا يعرف إلى أين تأخذه أقدامه وخطاه، إنه المجهول بعينه الذي يسير إليه الرجل ببلاده.
فى رواية أناتول فرانس (1844- 1924م) الشهيرة “جزيرة طيور البنجوين” مشهد هام ومعبر ويكاد يشي بالكثير مما نراه في الدنيا وبين الناس: يأتي لص عملاق على فلاح هزيل صعلوك يرعى مزرعته المزروعة خساً ويقول له: مزرعتك ملك لي!!.. ويهبط على جمجمة الصعلوك الهزيل فيقتله..!
كان هناك رجلان على مقربة من المشهد الذي استلفتهما بالطبع.. صرخ أحدهما من هول المنظر وبشاعته، وابتسم الآخر.. قائلا له: لا تصرخ.. هكذا توضع الأسس المقدسة للمالك والينابيع الدافقة لكل الفضائل والعظائم الإنسانية!
في تونس الآن.. من سيصرخ؟ ومن سيبتسم؟
وصدق من قال:
ما بكى الناس من زمان إلا ودهاهم بعده زمان